Image Not Found

علوم الطبيعة.. حقائق ثابتة أم فرضيات متغيرة؟ (3)**: الجاذبية الأرضية ليست حقيقة علمية

أ. د. حيدر أحمد اللواتي ** – الرؤية

ذكرنا في حديثنا السابق أن التجارب العلمية التي ينطلق منها العلماء في تفسير الظاهرة الطبيعية لا بُد وأن تكون حقائق علمية لا يختلف عليها أحد من العلماء، وأن نتائجها صحيحة وغير مشكوك فيها، لكن من المهم التفريق بين نوعين من التجارب؛ فهناك تجارب يتم فيها رصد الظاهرة مباشرة، وتجارب أخرى يتم فيها رصد أثر من آثار الظاهرة.

التجارب التي تُثبت وجود الإلكترون لا تقوم برصد الإلكترون مباشرة؛ بل غاية ما تقوم به هو رصد بعض آثاره المتوقعة، وعلى الرغم من كثرة تلك التجارب وقوة الأدلة الداعمة لوجود جسيم بمواصفات الإلكترون، إلّا أن جميع تلك التجارب غير مباشرة، فنحن لا يُمكننا رصد جسيم الإلكترون مباشرة، كما نرصد القمر مثلًا أو الثقب الأسود؛ بل غاية ما نستطيع أن نقوم به أن نرصد آثاره، ومن هنا فلا يُعد الإلكترون حقيقة علمية بناءً على التعريف الذي طرحناه، وهكذا الحال مع الجسيمات التي تتعامل معها فيزياء الجسيمات.

وقد يتساءل البعض حول بعض النصوص الدينية الواردة والتي قد تحتوي على مواضيع لها صلة قوية بعلوم الطبيعة، كأن تطرح آراء علمية حول كيفية نشأة الكون، لا من حيث أبعاده الغيبية؛ بل المادية، فتتحدث عن مراحل تشكُّل الكون وحدوثه وكيف نشأت الشمس والقمر والنجوم وغيرها من الأجرام السماوية. وقد تتناول أيضًا مواضيع مرتبطة بكيفية نشأة الحياة على كوكب الأرض وهكذا الحال مع الإنسان، فتذكر تفاصيل خلق الإنسان الأول. فهل هذه النصوص الدينية تعد مصدرًا مُعترفًا به في علوم الطبيعة، أم أنَّ هذه النصوص لا يؤخذ بها في علوم الطبيعة؟

المتخصصون في علوم الطبيعة لا يقرُّون بما تطرحه هذه النصوص ما لم تثبت صحة ما يتم طرحه بالتجربة العملية، فإذا أراد أحد من أصحاب الديانات إثبات صحة ما ورد في نص من النصوص فعليه إثبات ذلك بالمنهج التجريبي.

الخلاصة التي توصلنا إليها أن التجربة العلمية التي تكشف لنا عن الحقيقة العلمية هي التي تسمح لنا بالكشف عن الظاهرة الطبيعية بصورة مباشرة أي يمكننا رؤيتها مثلًا، وأن هذه التجربة يمكن تكرارها والحصول على ذات النتائج، وبذلك فإنَّ التجارب العلمية ونتائجها تمثل حقائق علمية لا يشك في صحتها، الّا أن حقيقة التجربة العلمية لا يعني أن هناك اتفاقًا على تفسير النتائج والاستنتاجات من هذه التجارب، فلا ضرورة ولا تلازم بين وحدة البيانات ونتائج التجربة وبين وحدة تفسير البيانات الناتجة من التجربة؛ بل يمكن أن يختلف العلماء فيما بينهم في تفسير هذه البيانات، وهذا ما يحدث في كثير من الأحيان، عندما يَعرِض المريض فحوصاته الطبية على طبيبين مختصين في نفس المجال، لكن يلاحظ أنه وبرغم أنهما قاما بمعاينة نفس الفحوصات، لكنهما توصلا إلى نتائج مختلفة. فلماذا يحدث ذلك؟ وما السر فيه؟

الواقع أن التفسير الذي يطرحه الطبيب أو العالم لا يعتمد إطلاقًا على البيانات التي أمامه فقط؛ بل تلعب الخبرات المتراكمة والتجارب المختلفة والمتابعات العلمية، والبيئة والتربية والمحيط الذي نشأ فيها العالم وترعرع دورًا مُهمًا في توجيه تفسيره، ومن هنا لا يعد تفسيره لنتائج التجربة العلمية حقيقة علمية بل لا يمكن للرأي الشخصي والفهم البشري للبيانات ونتائج التجارب أن يتحول الى حقائق علمية، فعادة الرأي العلمي لا يعتمد على نتائج التجارب وحدها؛ بل تؤدي شخصية العالم ومحيطه دورًا في تفسيرها.

وهذا التفريق بين الحقيقة العلمية وبين التفسير أو النظرية العلمية له أهمية كبيرة في إزالة الخلط الحاصل عند الكثيرين، فتراهم يقولون إن الحقائق العلمية كلها ظنون ولا يقر لها قرار فتارة يقول إن تناول الطعام الفلاني مفيد وبعد فترة تنقلب الآية ويقال إنه مضر وهكذا. فما الذي تغير في الموضوع؟

إن الذي تغيُّر في الموضوع ليست نتائج التجارب والتي نُطلق عليها الحقيقة العلمية، إنّما تغيُّر تفسيرها فقط، فمثلًا في هذه الأيام اعتبرت بعض الجهات العلمية أن السكريات المصنعة كمادة الأسبرتام مادة مسرطنة بينما ترى جهات علمية أخرى أنها آمنة، على الرغم من أنهما يعتمدان ويرجعان الى نفس البيانات والتجارب، فهم متفقون على صحة التجارب والبيانات الناتجة ولكنهم مختلفون في تفسير هذه البيانات والاستنتاجات المنبثقة من التفسير.

وهناك مفاهيم تنتزع وتستخدم لتفسير الظاهرة العلمية، ونظرا لكثرة أدلتها الداعمة، فإن البعض يعتبرها حقائق العلمية مع إنها ليست كذلك فمهوم الحقول المغناطيسية ومفهوم الجاذبية الأرضية، هي مفاهيم استخدمت لتفسير الظواهر العلمية، وهذه التفسيرات العلمية لا يمكن عدها حقائق علمية، فهي ليست ظواهر علمية يمكننا الكشف عنها مباشرة أو رصدها عبر الحواس، وانما نقوم باستخدامها لتفسير التجارب العلمية، ولهذا فإن هذه المفاهيم قد تتغير بظهور ظواهر طبيعية جديدة نعجز عن تفسيرها باستخدام التفسير القديم كما حدث مع مفهوم الجاذبية في قوانين نيوتن والذي استبدل بمفهوم مغاير في النظرية النسبية

إنَّ التفريق بين الحقيقة العلمية وتفسير العلماء له أهمية كبيرة فربما يتغير التفسير مع الأيام عندما يقوم عالم آخر بتحليل تلك البيانات والتجارب، بينما تبقى نتائج التجربة والحقيقة العلمية ثابتة لا تتغير.


** سلسلة من المقالات العلمية تتناول علوم الطبيعة، وتجيب على أسئلة ما إذا كانت هذه العلوم مجموعة من الحقائق التي لا يعتريها شك ولا شبهة، أم أنها محض ظنون لا يقر لها قرار وتتغير بتغير الزمان؟

** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس